“الحكواتي الأخير”.. المسرح التراثي المتجول في الأراضي المحتلة

يتفقد راضي الأشياء التي تلزم للسفر، ويطمئن على وجود كافة أغراض مسرحه المتنقل، موضوعة في أماكنها في الشاحنة الصغيرة، بينما ترتب زوجته منيرة أشياء البيت قبل المغادرة، وأما ابنهما المراهق النزق فراس الذي لم يعد يطيق العمل معهما في هذا الروتين الممل المرهق، فما يزال يغطّ في نوم عميق.

يحكي فيلم “الحكواتي الأخير” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية من إخراج التونسي كريم دريدي والفرنسي “جوليان جارتنر”؛ قصةَ المسرح الشعبي الفلسطيني المتجول، وذلك من خلال قصة عائلة فلسطينية مكونة من زوجين وابنهما الشاب، يمتهنون التمثيل ومسرح العرائس، ويتجولون في القرى والبلدات الفلسطينية، لعرض قصص من التراث الشعبي الفلسطيني.

“ظريف الطول”.. مسرح راقص من كنوز الأساطير الشعبية

تنطلق رحلة راضي وعائلته بالشاحنة التي يقودها راضي، وزوجته تجلس إلى جانبه، بينما فراس يقبع نائما في المقعد الخلفي بين ركام عُدَّة المسرح المتهالك، وبعد ساعات تحط القافلة رحالها في قاعةٍ في “مخيم عايدة”، أحد مخيمات اللجوء الفلسطيني بين مدينتيْ بيت لحم وبيت جالا، وعلى الفور يبدأ الفريق بتركيب المسرح ورفع السماعات وإرخاء الستائر وإعداد العرائس التي ستشارك في العرض.

سيكون العرض الأول لمسرحية “ظريف الطول”، تلك القصة الشعبية الفلسطينية المشهورة، وبطلها الشاب ممشوق القوام الذي تحبه فتيات القرية، لكنه يودّ تركها للبحث عن رزقه في بلدٍ آخر. وهذه المسرحية يحبها الأطفال كثيرا ويتفاعلون معها، ففيها الدبكة وأهازيج العرس الفلسطيني الفولكلوري، وسرديتها تحكي عن الحب والتضحية، وتتعرض لبعض أمراض المجتمع مثل البخل والطمع.

تجهيز روتيني لمسرح العرائس تحضيرا لاستقبال الأطفال

بعد انتهاء العرض، يبدأ تفكيك المسرح ثانية، في عمل مضنٍ لم يعد الزوجان الستينيتان قادرين عليه، بينما لا يفتأ فراس يتذمر من هذا الروتين، ويرى أنه يحول بينه وبين أحلامه في الانطلاق إلى عالم أرحب، وتجربة تليق بشبابه وتألقه، نعم هو يحب التمثيل، ولكن ليس بهذه الطريقة القديمة. وفي طريق العودة تحين ساعة الفراق ويترك فراس أبويه، ليواصلا طريقهما وحيدين.

“يويا”.. خيال المسرح وواقع أم الحيران

ستكون الوجهة التالية إلى قرية أم الحيران في صحراء النقب جنوب فلسطين، وبعد سفر طويل يجد راضي ومنيرة نفسيهما في طريق ترابية موحشة توصل بين الطريق الرئيسي وقرية أم الحيران، فهذه القرية لا يعترف بها الاحتلال الإسرائيلي، لأن أهلها من البدو رفضوا مغادرتها، وبالتالي فلا تصل إليها الخدمات من مياه وكهرباء وطرق.

في صحراء بئر السبع وبإمكانات بسيطة في المنطقة يتم تحضير المسرح

بعد تركيب المسرح ينادي راضي بسمّاعته اليدوية على أهالي القرية، ويدعوهم لمشاهدة مسرحية “يويا”، وتتحدث قصتها عن لص يبحث عن جزيرة الذهب، وفي طريقه يسرق البلدات ويجبر أهلها على مغادرتها وإلا فسوف يلقون مصيرهم المحتوم الموت، فتلمح في وجوه الأطفال المشاهدين تفاعلا وإصرارا على رفض دعوات اللص للرحيل، تُرى هل ربطوا بين المسرحية وواقعهم؟

بعد المسرحية التقى راضي ومنيرة بأحد سكان القرية، فأعرب عن شكره وامتنانه لمبادرة دعم صمود أم الحيران التي قدّماها من خلال العمل المسرحي البسيط، وشرح لهما سياسات دولة الاحتلال الرامية إلى تهجير البدو العرب عن موطنهم، وسياسة الجدران العازلة التي ترمي إلى تقطيع أوصال الشعب الفلسطيني الواحد؛ في الضفة وغزة وداخل الخط الأخضر.

من جنين إلى بئر السبع.. حسرة بطعم مختلف في كل قرية

المحطة التالية في منطقة جنين أقصى شمال الضفة الغربية، وتحديدا في بلدة جبع بين جنين ونابلس، لكن المنطقة تبدو مشتعلة، وجنود الاحتلال يطلقون النار والذخيرة الحية على جموع المواطنين، يبدو أن حادثة استشهاد فتاة من القرية قد ألهبت حماس الفلسطينيين للخروج في مظاهرات غاضبة، وتسعى قوات الاحتلال لتفريق الحشود بالقوة، وهنا سيضطر راضي إلى سلوك طريق التفافية أخرى.

في قرية أخرى من قرى بئر السبع، يتحدث راضي إلى الأطفال الذين جاءوا لمشاهدة مسرحياته، فتصدمه إجاباتهم المشوشة حول الهوية: عرب؟ إسرائيليون؟ فلسطينيون؟ كانت الإجابات مشوشة مثل أنظار الأطفال الشاردة، من نحن؟! ولماذا يجب علينا أن نقول (عرب إسرائيل)؟ ألَسْنا فلسطينيين مثلك يا عم راضي؟ اذهب إلى مدير المدرسة يا عم راضي، لعلك تجد الجواب.

مسرحيات منوعة وأغاني يرددها الحكواتيان أمام الأطفال المشدودين للقصص الوطنية الجميلة

في كل بلدة تنتاب راضي ومنيرة حسرة بطعم مختلف؛ شباب يتساقطون برصاص الاحتلال، وأطفال يجهلون هويتهم، وبلاد يمزقها جدار الفصل العنصري، وأشجار زيتون تنزف دما، ومآذن تتهاوى على رؤوس المصلين. يا لهذا الجرح الفلسطيني الذي يأبى أن يندمل.

“أما لهذا الليل من آخر؟”.. أربعون عاما من التجول المسرحي

تتعطل سيارة عمّ راضي في بئر السبع، ويهبّ شباب القرية لنجدته، ويطمئنونه أن العطل بسيط وأن بإمكانه مواصلة السير، لكن الأمر لم يعد يقتصر على الشاحنة العتيقة، لقد نال التعب والعطب من قلب راضي وهمته، فها هو ذا يبث همومه لزوجته منيرة: إنني لم أعد أحتمل، لقد تعبت، منذ أكثر من أربعين سنة ونحن نجوب القرى والمدن، أما لهذا الليل من آخر؟

يشرح لهما عن آلاف شجر الزيتون الذي قطعه الاحتلال من أرضه

وتحاول منيرة أن تسلي زوجها قائلة: هل هذا اعتراف ضمني أنك قد صرت عجوزا يا زوجي العزيز؟ فيرد عليها: نعم، وأنتِ كذلك.

بينما يحاول التدرب على لبس قناع وجه لشيخ طاعن في السن، سيكون أحد شخوص المسرحية القادمة. يحاول راضي إقناع زوجته أن تمثل هذا الدور، فتجيبه أنها لا تستطيع لبس القناع لمدة طويلة لأنه يعيق تنفسها.

المعبد الروماني القديم.. سرقة التاريخ والآثار في شمال فلسطين

تستمر يوميات المعاناة لراضي وزوجته التي بدأ الملل والتعب يتسلل إلى قلبها هي الأخرى، فما الذي يجبر زوجين تجاوزا سن الستين على أن يتسلقا السلالم عشرات المرات يوميا، ولماذا يقومان بفك وتركيب مسرحهما المتنقل عدة مرات؟ هل هو المال؟ إن أكثر عروضهما مجانية لإسعاد الأطفال. أم هو حب الشهرة؟ ربما. أم هي رسالة كامنة في أعماقهما يسعدان بتأديتها كل يوم؟ لقد وصلت الرسالة.

في إحدى قرى شمال فلسطين على الحدود مع لبنان، يتوقف راضي ومنيرة في منطقة سياحية هناك، وقد أصيبا بدهشة شديدة، فسلطات الاحتلال الإسرائيلي قد حوّلت المعبد الروماني القديم فيها إلى مزار ديني يهودي، وأوهمت جموع السائحين الذين يأتون من مختلف دول العالم أن هذا المكان هو كنيس يهودي قديم، في محاولة يائسة أخرى لإثبات موطئ قدم مزيف لليهود على أرض فلسطين.

عمل شاق يقوم به الحكواتي وزوجته في كل زيارة تحضيرا لمسرحهم

وبين الإحباط والأمل واليأس والتفاؤل يتابع راضي ومنيرة طريقهما بين شمال وجنوب فلسطين، ليصلا هذه المرة إلى قرية “العراقيب” في بئر السبع، وهي مثل أختها أم الحيران غير معترف بها على قوائم الاحتلال الصهيوني، لكنهم يجدون في أهلها عزيمة وإصرارا على التشبث بالأرض، والتمسك بالعروبة والإسلام، وعدم التنازل عن الهوية والتقاليد.

مجدل شمس.. أسلاك شائكة تخدش المشهد ��لتاريخي

يزداد وجع قلب راضي عندما يصل إلى الجولان، حيث الحدود الشمالية بين سوريا وفلسطين، وفي قرية مجدل شمس ينظر بعين الألم وهو يرى التحصينات العسكرية والأسلاك الشائكة التي ما كانت موجودة يوما قبل قيام ما يسمى اليوم بدولة إسرائيل. ينخلع قلب منيرة وهي تسمع أصوات الانفجارات والقنابل تكاد تصم أذنيها.

ولا تطيب الرحلة إلا بالتوقف في شوارع القدس العتيقة، حيث ما تزال أزقتها الضيقة تنبض بالأمل، وما يزال عبق التاريخ يفوح من مآذن الأقصى وقبة الصخرة، وعلى الرغم من محاولات طمس الهوية وتغيير المسميات، فما زالت نظرات الأطفال تختزن كثيرا من التحدي والصمود، أما حديث الشيوخ فكلمات مختصرة معدودة: “الاحتلال إلى زوال مهما طال”.

خذلان السيارة وانتصار الزيتون.. إسقاطات الفيلم

جاءت نهاية الفيلم لتخبرنا أن راضي ومنيرة مستمران في مسيرتهما، يقدمان مسرحهما المتجول مشيا على الأقدام، بعد أن خذلتهما سيارتهما الصغيرة، في رسالة رمزية أن صاحب الرسالة لا يهرم ولا يتعب، وحتى إن مات فسيحمل رسالته أجيال قادمة آمنت بها، وجاءت الرمزية الثانية في المشي بين أشجار الزيتون التي تمثل الألم والأمل الفلسطينيين الذين لا يشيخان ولا يفنيان.

ويحمل الفيلم في طياته مسحا لجغرافيا وتاريخ فلسطين على امتدادها، من صحراء النقب وبئر السبع جنوبا إلى مجدل شمس والحدود اللبنانية في أقصى شمال فلسطين، وقد تجول في فضائها الديموغرافي بين البدو وأهل المدن وفلّاحي القرى وأهل المخيمات، وتنقَّل بين مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وآثارها العربية والرومانية القديمة.

صرخات الأطفال وضحكاتهم وتفاعلهم مع عروض مسرح العرائس

ورصد الفيلم الممارسات الصهيونية لطمس الهوية الفلسطينية، وتغييب المشهد العربي عن سماء القدس، وتحييد التجمعات السكنية العربية، وفصلها في (كانتونات)، ومحاولاته اليائسة في التشويش على الهوية الفلسطينية والانتماء العربي، وإخماد جذوة الصمود والمقاومة في صدور طلاب الحرية.

راضي ومنيرة هما صورة كل فلسطيني وفلسطينية، تنتابهما حالات من اليأس في لحظات، ولكنهما يريان الأمل في عيون الأطفال، ويستلهمان الإصرار والعزيمة من براعم الزيتون وهي تتفتح بين الصخور، ومن الجذوع التي اقتلعها الأعداء، ويضحكان بسخرية حتى الثمالة، كما يضحك تراب فلسطين من قرع نعال الأغراب، الذين هم لا محالة زائلون.